الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة علي مصباح: الحياة إلى جوار نيتشه

نشر في  18 أفريل 2014  (12:00)

بقلم الكاتب كمال الرياحي

عندما يستعصي علي العثور على الكلمة الملائمة وتخونني الكلمات في العبور إلى الضفة الأخرى، عندما أجلس في بيتي فريسة لشعور مؤلم بالعجز والقهر. أحيانا أود لو أنني أركض، لكن البيت صغير جدا لمثل هذه الرياضات العلاجية، أو أنني أخرج للتمشي في جولات طويلة غالبا ما تساعدني على تبديد الطاقات السامة للشعور بالقهر الناجم عن التوقف ليوم أو يومين أحيانا أمام جملة، أو عبارة أو استعارة تتعذر عن النقل، في مثل هذه الحالات ليس هناك من مساعد غير الصبر؛ فغدا ستشرق الشمس من جديد يجب أن يقول المرء لنفسه." هكذا وصف الكاتب التونسي المقيم ببرلين علي مصباح قصته مع ترجمة أعمال الفيلسوف الألماني الشهير فريدريك نيتشه.

تبدو العلاقة بين المترجم والفيلسوف حالة صوفية وعشق  غائر في العظم متجاوةزا حاجة براجماتية لدار نشر وسعيا لنقل كتاب والتخلص منه. إنها حالة من الحلول والاستحضار أشبه باستحضار الأرواح  بكل ما تعترض التجربة من مخاطر على النفس والجسد.

نيتشه من خارجه

بدأ تعرف علي مصباح بنيتشه من خارج عالمه اللساني، اذ عرف مؤلفاته وشغف بها من لغة موليير فقد تخرج من الجامعات الفرنسية وككل القراء بالمغرب العربي مثلت الفرنسية غنيمة في وجه من وجوهها للتعرف على ثقافات الآخر البعيد. هذا التعرف الفرنسي على نيتشه  سيصبح محل تساؤل ومراجعة بعد سنوات عندما يكتشف المريد التونسي بؤس بعض الترجمات التي عرفها بالفرنسية، لكن البؤس كل البؤس هو ما قرأه من ترجمات عربية لنيتشه متمخضة عن تلك الترجمات الفرنسية وهو ما دفعه إلى وصفها بالترجمات الكارثية.

الاقتراب من نيتشه  

غادر علي مصباح بعد سنوات تونس نحو ألمانيا وهناك بدأ نيتشه يقترب منه من جديد بملامح جديدة  وتتضح تلك الملامح  كلما اتسعت معارف الكاتب التونسي باللغة الألمانية التي اكتسبها بالتراكم ليقرأ بها من جديد مدونة صاحب "هذا هو الإنسان". وظل المريد النيتشوي يكتب قصصه ورواياته حتى وقع بين يديه مرة كتاب "الإنجيل" الخامس لنيتشه للكاتب بيتر سلوتردايك وشرع في نقله إلى العربية. كان ذلك بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لوفاة نيتشه، ولم تكن ذكرى وفاة عادية كما يصفها المترجم  فقد" استقبلت ألمانيا القلقة بالوزر الثقيل لتاريخها القريب هذه الذكرى مثل ضيف محرج لا تعرف كيف تتصرف حياله، أو دائن لم يسدد دينه بعد، ولم يعترف له بعد بهذا الدين." فنيتشه مدان بالنسبة إلى بعض الألمان و"معتدى عليه، ومتعسف عليه ومنهوب عنوة واغتصابا" بالنسبة إلى البعض الآخر. وكان  كتاب  بيتر سلوتردايك مشعلا لفتيل الجدل حول نيتشه من جديد.

الترجمة التي رحبت بها دار الجمل  لصاحبها الشاعر خالد معالي كانت أيضا اعادة اطلاق لحلم المترجم/المريد التونسي لنقل أعمال نيتشه إلى العربية والانتقام له مما لحقه من عمليات تشويه نصي من الترجمات عن اللغات الأخرى أو الترجمات التجارية التي تزايدت بلا أي حياء.

 ولكن كيف للمترجم أن يعبر عالم هذا الفيلسوف الذي وصفه  نفسه بأنه لم ليس بانسان "بل عبوة ديناميت" أو كما وصفه بيتر سلوتردايك ب"الكارثة في تاريخ اللغة؟

"هذا هو الانسان"وأخواته أو الورطة الرائعة

بعد تجربة العتبات والفرجة من الثقب، ثقب النقد والتأويل مع بيتر سلوتردايك اختار علي مصباح أن يمسك نيتشه من كتابه الأكثر شمولا، كتابه الأوتوبيوغرافي" هذا هو الانسان" الذي يعرض فيه نيتشه مشروعه الفلسفي ومجمل أعماله وبعض تفاصيل حياته ليكون مدخلا ناجحا لطريق طويلة  سيمشيها المترجم  في أفكار الفيلسوف. ولم ير المترجم من فائدة في وضع تقديم لكتاب يقف صاحبه متوعدا قراءه  والبشرية "بالزامات جسيمة لم تعرف لها مثيلا في السابق " ويمضي نيتشه منذ البداية في تأكيد طبيعة الكتاب الاوتوبيوغرافي ووضع ميثاقه في الاعتراف بدوافع وضع الكتاب وهو التنكر، تنكر جيله له مما جعله لا يسمع به  ولا يراه أحد. فيصدح في أول المقدمة"اسمعوني! فأنا فلا الفلاني. لا تخلطوا بيني وبين شخص آخر." ويشبه نفسه بتلميذ ديونيووس ويحذر قراء كتابه من اعتباره فزاعة أو غول اخلاقي وأن الأفضل أن يعتبره مهرجا على أن يعتبروه قديسا.

هذا الكتاب الذي أوصى فيه نيتسه قراءه بأن يضيعوه ويجدوا أنفسهم كان فاتحة أعمال نيتشه المترجمة بقلم علي مصباح فأخذ ناشره يحرضه على ترجمة المزيد مستغلا حاجة دفينة كانت تتأجج دائما في أعماق المترجم التونسي وهي تحرير نيتشه من ترجماته السيئة عربيا وشغفا بهذا الفيلسوف الضارب في أعماق العمق. هكذا كان الناشر يتواطؤ مع أعماق المترجم ليمضي المشروع في التراكم حتى كانت التجربة الأصعب مع الكتاب العمدة؛ هكذا تكلم زارادشت.

قضى علي مصباح سنوات في نقل هذا الكتاب إلى العربية فصحبه في رحلاته إلى الشرق الأدنى واعتكف في الريف البعيد يعارك زارادشت المجنون  تارة والنبي تارة أخرى. حتى ظهر الكتاب وشيع  مريدوا نيتشه جثمان ترجمته القديمة غير مأسوف عليها.

كان صاحب رواية"حارة السفهاء" كما صرح لنا يقول كل مرة وهو يترجم كتابا لنيتشه بأنه الكتاب الأخير ولن يقدم على غيره ولكنه يعلم في قرارة نفسه بأنه سقط في الشرك وأن تعلقه بنيتشه مصير اختاره وفقد السيطرة عليه لذلك ما إن أتم ترجمة "هكذا تكلم زاردشت" وكتاب " غسق الأوثان" ونقيض المسيح"   حتى أطل عليه كتاب " انساني مفرط في انسانيته" برأسيه مبتسما. لتبدأ تجربة جديدة في الترحال المعرفي فيقذف به نيتشه من جديد  من برلين نحو كمبوديا لينفرد بانسانيته المفرطة. خرج علينا  هذا العام جزءه  الأول : انساني مفرط في انسانيته / كتاب للمفكرين الأحرار " لتترنح الترجمة القديمة كما يترنح ملاكم تعرض للكمة قاسية منتظرا الضربة القاضية. فيضحك السفهاء في حارتهم وهم يشاهدون حلبة المترجمين ونيتشه في زيه الأسود صارخا : ما من حياة دون متعة، والصراع من أجل المتعة صراع من أجل الحياة."

 

الرابط الأصلي للمقال: http://kamelriahi.wordpress.com/2014/04/16/%D8%B9%D9%84%D9%8A-%D9%85%D8%B5%D8%A8%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%AC%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D9%86%D9%8A%D8%AA%D8%B4%D9%87-%D9%83%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%A7/